فصل: تفسير الآيات (49- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (46- 48):

{قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)}
قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} نصب لأنه نداء مضاف وكذا {عالِمَ الْغَيْبِ} ولا يجوز عند سيبويه أن يكون نعتا. {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وفي صحيح مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» ولما بلغ الربيع بن خيثم قتل الحسين بن علي رضي الله عنهم قرأ {قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون}.
وقال سعيد بن جبير: إني لأعرف آية ما قرأها أحد قط فسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي كذبوا وأشركوا {ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ} أي من سوء عذاب ذلك اليوم. وقد مضى هذا في سورة آل عمران و{الرعد}. {وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} من أجل ما روي فيه ما رواه منصور عن مجاهد قال: عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات. وقاله السدي.
وقيل: عملوا أعمالا توهموا أنهم يتوبون منها قبل الموت فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا، وقد كانوا ظنوا أنهم ينجون بالتوبة. ويجوز أن يكونوا توهموا أنه يغفر لهم من غير توبة ف {بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} من دخول النار.
وقال سفيان الثوري في هذه الآية: ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء هذه آيتهم وقصتهم.
وقال عكرمة ابن عمار: جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديد، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال:
أخاف آية من كتاب الله {وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب. {وبَدا لَهُمْ} أي ظهر لهم {سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا} أي عقاب ما كسبوا من الكفر والمعاصي. {وَحاقَ بِهِمْ} أي أحاط بهم ونزل {ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}

.تفسير الآيات (49- 52):

{فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
قوله تعالى: {فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا} قيل: إنها نزلت في حذيفة بن المغيرة. {ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ} قال قتادة: {عَلى عِلْمٍ} عندي بوجوه المكاسب، وعنه أيضا {عَلى عِلْمٍ} على خير عندي قيل: {عَلى عِلْمٍ} أي على علم من الله بفضلي.
وقال الحسن: {عَلى عِلْمٍ} أي بعلم علمني الله إياه.
وقيل: المعنى أنه قال قد علمت أني إذا أوتيت هذا في الدنيا أن لي عند الله منزلة، فقال الله: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي بل النعم التي أوتيتها فتنة تختبر بها. قال الفراء: أنث {هي} لتأنيث الفتنة، ولو كان بل هو فتنة لجاز. النحاس: التقدير بل أعطيته فتنة. {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أن إعطاءهم المال اختبار. قوله تعالى: {قَدْ قالَهَا} أنث على تأنيث الكلمة. {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني الكفار قبلهم كقارون وغيره حيث قال: {إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي}. {فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ} {ما} للجحد أي لم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا.
وقيل:
أي فما الذي أغنى أموالهم؟ ف {إِنَّما} استفهام. {فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا} أي جزاء سيئا ت أعمالهم. وقد يسمى جزاء السيئة سيئة. {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا} أي أشركوا {من هؤلاء} لا لأمة {سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا} أي بالجوع والسيف. {وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي فائتين الله ولا سابقية. وقد تقدم. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خص المؤمن بالذكر، لأنه هو الذي يتدبر الآيات وينتفع بها. ويعلم أن سعة الرزق قد يكو مكرا واستدراجا، وتقتيره رفعة وإعظاما.

.تفسير الآيات (53- 59):

{قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)}
قوله تعالى: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} وإن شئت حذفت الياء، لأن النداء موضع حذف. النحاس: ومن أجل ما روي فيه ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: لما اجتمعنا على الهجرة، اتعدت أنا وهشام بن العاصي بن وائل السهمي، وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة، فقلنا: الموعد أضاه بني غفار، وقلنا: من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه. فأصبحت أنا وعياش ابن عتبة وحبس عنا هشام، وإذا به قد فتن فافتتن، فكنا نقول بالمدينة: هؤلاء قد عرفوا الله عز وجل وآمنوا برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة، وكانوا هم أيضا يقولون هذا في أنفسهم، فأنزل الله عز وجل في كتابه: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} إلى قوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} قال عمر: فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام. قال هشام: فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى فقلت: اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فقالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بعثوا إليه: إن ما تدعو إليه لحسن أو تخبرنا أن لنا توبة؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} ذكره البخاري بمعناه. وقد مضى في آخر الفرقان. وعن ابن عباس أيضا نزلت في أهل مكة قالوا: بزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، وكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله فأنزل الله هذه الآية.
وقيل: إنها نزلت في قوم من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في العبادة، وخافوا ألا يتقبل منهم لذنوب سبقت لهم في الجاهلية.
وقال ابن عباس أيضا وعطاء نزلت في وحشي قاتل حمزة، لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه: وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: أتى وحشي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «قد كنت أحب أن أراك على غير جوار فأما إذ أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله» قال: فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت، هل يقبل الله منى توبة؟ فصمت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزلت: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] إلى آخر الآية فتلاها عليه، فقال أرى شرطا فلعلي لا أعمل صالحا، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله. فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} [النساء: 48] فدعا به فتلا عليه، قال: فلعلي ممن لا يشاء أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله. فنزلت: {يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} فقال: نعم الآن لا أرى شرطا. فأسلم.
وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء أنها سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ولا يبالي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
وفي مصحف ابن مسعود {إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء}. قال أبو جعفر النحاس: وهاتان القراءتان على التفسير، أي يغفر الله لمن يشاء. وقد عرف الله عز وجل من شاء أن يغفر له، وهو التائب أو من عمل صغيرة ولم تكن له كبيرة، ودل على أنه يريد التائب ما بعده {وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ} فالتائب مغفور له ذنوبه جميعا يدل على ذلك {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ} [طه: 82] فهذا لا إشكال فيه.
وقال علي بن أبي طالب: ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} وقد مضى هذا في سبحان.
وقال عبد الله بن عمر: وهذه أرجى آية في القرآن فرد عليهم ابن عباس وقال أرجى آية في القرآن قول تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] وقد مضى في الرعد. وقرئ: {ولا تقنطوا} بكسر النون وفتحها. وقد مضى في {الحجر} بيانه. قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ} أي ارجعوا إليه بالطاعة، لما بين أن من تاب من الشرك يغفر له أمر بالتوبة والرجوع إليه، والإنابة الرجوع إلى الله بالإخلاص. {وَأَسْلِمُوا لَهُ} أي اخضعوا له وأطيعوا {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ} في الدنيا {ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} أي لا تمنعون من عذابه، وروى من حديث جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «من السعادة أن يطيل الله عمر المرء في الطاعة ويرزقه الإنابة وإن من الشقاوة أن يعمل المرء ويعجب بعمله». قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} {أحسن ما أنزل} هو القرآن وكله حسن، والمعنى ما قال الحسن: التزموا طاعته، واجتنبوا معصيته، وقال السدى: الأحسن ما أمر الله به في كتابه، وقال ابن زيد: يعني المحكمات، وكلوا علم المتشابه إلى عالمه، وقال: أنزل الله كتبا التوراة والإنجيل والزبور، ثم أنزل القرآن وأمر باتباعه فهو الأحسن وهو المعجز، وقيل: هذا أحسن لأنه ناسخ قاض على جميع الكتب وجميع الكتب منسوخة- وقيل: يعني العفو، لان الله تعالى خير نبيه عليه السلام بين العفو والقصاص، وقيل ما علم الله النبي عليه السلام وليس بقرآن فهو حسن، وما أوحى إليه من القرآن فهو الأحسن، وقيل: أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية. قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى} {أن} في موضع نصب أي كراهة {أَنْ تَقُولَ} وعند الكوفيين لئلا تقول وعند البصريين حذر {أن تقول}.
وقيل: أي من قبل {أن تقول نفس} لأنه قال قبل هذا: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ}. الزمخشري: فإن قلت لم نكرت؟ قلت، لان المراد بها بعض الأنفس وهى نفس الكافر، ويجوز أن يريد نفسا متميزة من الأنفس، إما بلجاج في الكفر شديد، أو بعقاب عظيم. ويجوز أن يراد التكثير كما قال الأعشى:
ورب بقيع لو هتفت بجوه ** أتانى كريم ينفض الرأس مغضبا

وهو يريد أفواجا من الكرام ينصرونه لا كريما واحدا، ونظيره رب بلد قطعت، ورب بطل قارعت، ولا يقصد إلا التكثير. {يا حَسْرَتى} والأصل {يا حَسْرَتى} فأبدل من الياء ألف، لأنها أخف وأمكن في الاستغاثة بمد الصوت، وربما ألحقوا بها الهاء، أنشد الفراء:
يا مرحباه بحمار ناجية ** إذا أتى قربته للسانية

وربما ألحقوا بها الياء بعد الالف، لتدل على الإضافة، وكذلك قرأها أبو جعفر: يا حسرتاى والحسرة الندامة. {عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} قال الحسن: في طاعة الله.
وقال الضحاك: أي في ذكر الله عز وجل. قال: يعني القرآن والعمل به.
وقال أبو عبيدة: في جنب الله أي في ثواب الله.
وقال الفراء: الجنب القرب والجوار: يقال فلان يعيش في جنب فلان أي في جواره ومنه {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} أي على ما فرطت في طلب جواره وقربه وهو الجنة وقال الزجاج: أي على ما فرطت في الطريق الذي هو طريق الله الذي دعاني إليه، والعرب تسمى السبب والطريق إلى الشيء جنبا، تقول تجرعت في جنبك غصصا، أي لأجلك وسببك ولأجل مرضاتك.
وقيل: {فِي جَنْبِ اللَّهِ} أي في الجانب الذي يؤدى إلى رضا الله عز وجل وثوابه، والعرب تسمى الجانب جنبا، قال الشاعر:
قسم مجهودا لذاك القلب ** الناس جنب والأمير جنب

يعنى الناس من جانب والأمير من جانب، وقال ابن عرفه: أي تركت من أمر الله، يقال ما فعلت ذلك في جنب حاجتي، قال كثير:
ألا تتقين الله في جنب عاشق ** له كبد حرى عليك تقطع

وكذا قال مجاهد، أي ضيعت من أمر الله. ويروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ما جلس رجل مجلسا ولا مشى ممشى ولا اضطجع مضطجع لم يذكر الله عز وجل فيه إلا كان عليه ترة يوم القيامة» أي حَسْرَتى، خرجه أبو داود بمعناه.
وقال إبراهيم التيمي: من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي أتاه الله في الدنيا يوم القيامة في ميزان غيره، قد ورثه وعمل فيه بالحق، كان له أجره وعلى الأخر وزره، ومن الحسرات أن يرى الرجل عبده الذي خوله الله إياه في الدنيا أقرب منزلة من الله عز وجل، أو يرى رجلا يعرفه أعمى في الدنيا قد أبصر يوم القيامة وعمى هو، {وإن كنت لمن الساخرين} أي وما كنت إلا من المستهزئين بالقرآن وبالرسول في الدنيا، بأولياء الله، قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها، ومحل {إِنْ كُنْتُ} النصب على الحال، كأنه قال: فرطت وأنا ساخر، أي فرطت في حال سخريتي، وقيل وما كنت إلا في سخرية ولعب وباطل أي ما كان سعيي إلا في عبادة غير الله تعالى. قوله تعالى: {أَوْ تَقُولَ} هذه النفس {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي} أي أرشدني إلى دينه {لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أي الشرك والمعاسى، وهذا القول لو أن الله هداني لاهتديت قول صدق، وهو قريب من احتجاج المشركين فيما أخبر الرب جل وعز عنهم في قوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا} فهي كلمة حق أريد بها باطل، كما قال على رضي الله عنه لما قال قائل من الخوارج لا حكم إلا لله، {أَوْ تَقُولَ} يعني هذه النفس {حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} أي رجعة، {فَأَكُونَ} نصب على جواب التمني، وإن شئت كان معطوفا على {كَرَّةً} لان معناه أن أكر، كما قال الشاعر:
للبس عباءة وتقر عيني ** أحب إلى من لبس الشفوف

وأنشد الفراء:
فما لك منها غير ذكرى وخشية ** وتسأل عن ركبانها أين يمموا

فنصب وتُسْئَلُ على موضع الذكرى، لان معنى الكلام فمالك منها إلا أن تذكر، ومنه للبس عباءة وتقر، أي لان ألبس عباءة وتقر، وقال أبو صالح: كان رجل عالم في بنى إسرائيل وجد رقعة، إن العبد ليعمل الزمان الطويل بطاعة الله فيختم له عمله بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بمعصية الله ثم يختم له عمله بعمل رجل من أهل الجنة فيدخل الجنة، فقال: ولاي شيء أتعب نفسي فترك عمله واخذ في الفسوق والمعصية، وقال له إبليس: لك عمر طويل فتمتع في الدنيا ثم تتوب، فأخذ في الفسوق وأنفق ماله في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان، فقال: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، ذهب عمرى في طاعة الشيطان، فندم حين لا ينفعه الندم، فأنزل الله خبره في القرآن، وقال قتادة: هؤلان أصناف، صنف منهم قال: {يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}. وصنف منهم قال: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، وقال آخر: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فقال الله تعالى ردا لكلامهم {بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي} قال الزجاج: {بَلى} جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي، ولكن معنى {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي} ما هداني، وكان هذا القائل قال ما هديت، فقيل، بلى قد بين لك طريق الهدي فكنت بحيث لو أردت أن تؤمن أمكنك أن تؤمن. {آياتِي} أي القرآن، وقيل: عني بالآيات المعجزات، أي وضح الدليل فأنكرته وكذبته، {وَاسْتَكْبَرْتَ} أي تكبرت عن الايمان {وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ}. وقال: {اسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ} وهو خطاب الذكر، لان النفس تقع على الذكر والأنثى. يقال،: ثلاثة أنفس، وقال المبرد: تقول العرب نفس واحد أي إنسان واحد.
وروى الربيع بن أنس عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ {قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ}. وقرأ الأعمش {بلى قد جاءته آياتي} وهذا يدل على التذكر- والربيع بن أنس لم يلحق أم سلمة إلا أن القراءة جائزة، لان النفس تقع للمذكر والمؤنث. وقد أنكر هذه القراءة بعضهم وقال: يجب إذا كسر التاء أن تقول وكنت من الكوافر أو من الكافرات. قال النحاس: وهذا لا يلزم، إلا تقول وكنت من الكوافر أو من الكافرات. قال النحاس: وهذا لا يلزم، ألا ترى أن قبله، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} ولم يقل من السواخر ولا من الساخرات، والتقدير في العربية على كسر التاء {وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ} من الجمع الساخرين أو من الناس الساخرين أو من القوم الساخرين.